Tuesday 12 August 2014

زيتونة محترقة



وقف بين الاطلال متأملًا ..
كان بيته هنـا تمامًا .. أحجاره البيضاء القديمة ، تكسوها ذرات التراب الرمادى فتعطيها منظرًا أثـريًا محببًا .. بابه الخشبىّ الثقيل ، يضيءُ مدخلَه مصباح أصفـر قديم .. نافذته الخضـراء بلون العُشب .. السيارة الفولكس العتيقة التى يملكها والده والتى أصبحت أحد علامات البيت ..
مُنذُ يومين فقـط كان هذا الفراغُ منزلًا .. منزله ..
فى هذا المكان اجتمع بأصدقائه ، وقابل محبوبته سرًا .. شرِب البوظة لأول مـرة ، وسرق مفتاح الفولكس وحاول قيادتها ..
فى هذا المكان تقبع ذكرياته ، وأحلامه .. أين هى الآن ؟
هل كان يجب أن يترك منزله فى هذا اليـوم ؟
لطالما كان كسـولًا .. تأمره أمه : " اذهب إلى أم خالد واطلب منها رغيفين للعشاء " ..
يرد : " لماذا لا تخبزون خبزكم بدلًا من هذا التسوّل ؟! "
تنظـر إليه أمه بمرارة ولا ترد.
كان يعلم حالهم جيدًا .. يعلم أن أمه لا تطلب منه هذا إلا لضيق رزق لا يُحتمَل ..
يعلم كل هذا ولكنه يكررها : "لماذا لا تخبزون خبزكم بدلًا من التسوّل ؟! "
يقوم من مجلسه بتكاسل كالعادة وينادى رندة ، أخته.. " اذهبى إلى أم خالد واطلبى منها رغيفين للعشاء ! "
لماذا هذه المرة بالذات قرر الذهاب بنفسـه ؟!
يقولون أننا نظل أطفالًا إلى أن نفقـد أمهاتنا ، عندهـا نكبُر فجـأة ..
ماذا عمن فقـد أمه وأخوته جميعًا ؟ لقد مُت مرات عدّة فى ثوانٍ قليلة !
واقفٌ أنا فى ذهول .. صرخاتهم المُلتاعة تأتينى فأتجمّدُ أكثـر .. قدماى كمسماريْن دُقّا إلى الأرض بمطرقة ثقيلة ، وعينياى تغشاهما نارٌ تحرق عائلتى وقلبى ..
أمى هناك تحترق .. أختى هناك تحترق .. أخى هناك يحترق .. زيتونتى هناك تحترق .. آه يا زيتونتى ..
ارتفعت بعينى لأرى الطائرة تنسحب بفخـرٍ بعد أن أدّت مهمتهـا بنجـاح !
جميلة هى الطائـرة .. كطائرٍ خُرافىّ من الحكايات القديمة..
قال لى صديقى سمير ذات يوم " لا شئ مثل ركوب طائرةٍ وإلقاء نظرةٍ من شُبّاكها " ، وصدقته.
كيف رأى ذلك الطيّار منزلنا ؟ هل رآه جميلًا كما يقول صديقى سميـر ؟ .. لا أعتقد هذا ، وإلا لماذا دمّره طالما يراه جميلًا .. هل كان سيغيّر رأيه لو رآنى ألعب فوق السطح كما أعتدت مع أصدقائى ؟ ربما لو رأى ( رندة ) تحدّث دميتها لعدَل عن ذلك ، ماذا لو رأى أمى وهى تجفف تجفف التين أو تنشر غسيلها ؟
ها هى أمى أمامى ، أشلاء ممزقة.. لن تجفف التين أو تنشـر الملابس مرّة أخرى ..
قررتُ ، فى داخلى ، ألّا أدع زوجتى تُجفف التين لأن هذا يزعج الطائرات ..

No comments:

Post a Comment