Tuesday 12 August 2014

شارع المغربى



اقتـرب الموعـد ..
يجلس على كرسيه فى قلق يراقب ساعة الحائط المُعلقة على الجدار أمامه .. دقيقتان حتى تدق التاسعة مساءًا .. دقيقتان قبل أن يحين موعـد كابوسه المُعتـاد ..
ضم ياقة قميصه كأنما يحاول الاختبـاء من شئ مـا ثم أغمض عينه وانتظـر .. بعد دقيقتين سيناديه والده كالعادة ليشترى له علبة سجائر ..

منذ سنين طويلة ووالده يشرب نفس العدد من السجائـر كل يـوم .. إنها دومًا أربعة سجائر ، وبالتالى تنتهى العلبة بعد خمسة أيام .. خمسة أيام تفصله عن الكابوس والآخـر.
يقع منزلهم فى نهاية شارعٍ طويلٍ يُسمّى شارع ( المغاربى ) ، بينما يقع المتجـر الوحيد فى البلدة على الجانب الآخـر من الشارع ، ولهذا يضطر لقطع ذلك الشارع كلما أراد أن يشترى ما يريد ..
إنه جبان ولا يُخفى هذا .. كان دائمًا يختار وقتَ الظهيـرة أو الصباح ليشترى ما يريد .. يكون الشارع وقتها ممتلئًا بالبشـر .. فلاحين ، ومعهم بهائمهم ،  يقطعون الشارع ثم يعبرون القنطرة الصغيرة ليصلوا إلى أراضيهم على الجانب الآخـر .. نساء يجلسن أمام البيوت يتحدثن بالنميمة عن هذه وتلك .. عم صبحى بائع الملح الذى أصبح أحد علامات البلدة القليلة بجسده النحيل وصرخته الغريبة التى ينادى بها على بضاعته .. أطفالٍ بملابس رثة يلعبون الكرة ، ويحاولون بقدر الإمكان ألا يكسروا زجاج أحد المنازل ..
ولكنّ والده يصـر على أن يرسله فى هذا الموعد دائمًا ليحضر له السجائر .. التاسعة مساءًا !
ما المميز فى هذا الوقت ؟! .. لا يعرف.

ها هو يخرج من منزله كالعادة .. ينظـر بعينٍ وجلةٍ إلى نهاية الشارع المظلمة .. يتلو بعض آيات القرآن ثم يتحرك ..
أصحاب البيوت فى هذا الشارع فقراء ولا يملكون رفاهية وضع المصابيح أمام منازلهم .. لهذا تجد أن الشارع مُظلمٌ كقبـر .. يثيـر فى داخله خيالات لا تنتهـى ..
الربع الأول من الشارع هو الأسهـل .. الأرض منبسطة ، وأنوار الطريق الرئيسىّ تتسرب من انحناءات المبانى لتلقى أشعتها القليلة فتخفف وحشة الظلام ..
يقطع هذا الجزء ببطء كإنما يريد أن يؤخـر الكابوس قدرَ الإمكان ..
البيوت فى منتصف الشارع قليلة الارتفاع .. يتسلل القمر من فوقها ليلقى ظلالًا على أرض الشارع المُبتلّة دائمًا .. هنا يبدأ الكابـوس !
جذوع نخل لعينة .. ترقد كجثث إلى جانب الشارع ..ملقاةً هنا منذ سنوات طويلةٍ حتى تصدّعت وتشققت واخترقتها العقارب والأفاعى .. تقضى نهارها مختبئة وتخرجُ ليلًا بحثًا عن فرائسها من الفئران والطيور .. والبشـر ..
رأى فى صغره فيلمًا لأفعى كوبرا تبتلع الناس أحيـاء ، وظل لسنوات طويلة يتخيّل هذه الجذوع كأفاعى عملاقة ترتفع بنصفها العلوىّ لتلتقمه إلى بطنها ..
رأى بعد ذلك فيلمًا عن عالمٍ مجنون يجمع أجزاء الموتى ليحولّها إلى جثةٍ واحدةٍ ثم يعرّضها للكهرباء فتصيرُ حيةً تهاجم الناس .. لا يذكر تمامًا اسم الفيلم ، ولكنه كان مرعبًا بما يكفى لتظل أحداثه حاضرة فى ذهنه إلى الآن ... هكذا اختلف منظوره إلى الجذوع لتصبح جثثً مُجمّعَةً لبشـرٍ  متربصة تنتظـر أن يغفل عنها لتقطع رأسه ..
يذكر الله مرةً أخرى ويكمل سيره ..
إنه الآن فى منتصف الشارع .. يخيّل إليه أن ظله يسير أسرع منه ! .. ينظـر خلفه فلا يرى شيئًا .. إنها ألعاب الظل المُعتـادة ! انعدام الضـوء يخيف بينما قليلٌ من الضـوء يخيف أكثـر ..

يراقب رسومات لأطفال مشوهين على جدران المنازل .. أطفالٍ ضاحكين برؤوسٍ بيضاويةٍ ضخمة وأيادى غليظة وفمٍ واسعٍ تملؤه أسنان مدببة ..
رسم هو وأصدقاؤه هذه الرسومات منذ وقت طويل ، ولو كان يعرف أنها ستسبب له كل هذا الرعب لما رسمها .. حاول لأيامَ طويلةٍ بعد ذلك أن يُزيلها ولكنها لم تُمسح .. ظلت فى مكانها ، ضاحكة تسخر منه ..
يجدّ السيـر حتى ينتهى من هذا الكابوس .. "هانت" قال لنفسه ..

 لم يعد هناك الكثيـر .. فقط عليه أن يمّر بكلاب ( أم محمود ) المخيفة ذات العيون المضيئة التى تبادله النظرات بوقاحة ، ويُخيّل إليه أنه إذا خاطبها ستجيبه !
ها هى .. أقذر مجموعة من الكلاب قد تراها فى حياتك .. كلبٌ أسود ضخم ، هو قائد المجموعة  ، تتبعه كلابٌ حمراء وخضراء وصفراء تشكّل عصابةً تسطو على المنازل ، ذات السقف المنخفض ، ليلًا لتأكل الدجاج والحمام واللحوم المنسية والطعام المكشوف ..
تلتف حوله فى خبث ، تتبعه لخطوات قليلةٍ لتفرض نفوذها وتُثبت قوتها وجرأتها .. ينظر خلفه يتابعها فى حـذر ، يستمر فى مشيه ونظراته تلاحقها إلى أن تتوقف ف يتحول ببصره للأمام ..
وصل أخيـرًا إلى المتجـر .. تنهد بارتياح وشكر الله بصدق ..
رأى عالمًا يموج بالحركة عند المتجـر ..شباب يقفون على الناصية البعيدة يدخنون السجائر ويثرثرون عن النساء والنادى الأهلى والحشيش .. أطفالٌ يتعاركون على شئٍ لا يدرى كنهه ..( عربى ) صاحب المتجر وأصدقاؤه يجلسون على حصيرة قديمة يتبادلون الأحاديث وأحجار المعسل ..
يراه ( عربى ) من بعيد فيقوم من مكانه فى تكاسلٍ ليحضـر طلبه الذى يعرفه جيدًا ..يرفع الخشبة التى تغلق باب المتجر الصغير ويمد يده إلى الرف الثالث على يمينه ليلتقط علبة السجائر ثم يخرج من المتجر ليعطيها للفتى الصغير  ..
ينظـر الفتى بضيقٍ إلى صورة الرئة المتعفنة الموجودة على غلاف العلبة " هل ستكون رئة أبى كهذه يومًا ما ؟ " ..
يقول الفتى " قيّدها على النوتة يا عم عربى " ثم يدور على عقبيه ليعود ..يمشى سرحانًا يفكر فى الخمسة أيام القادمة التى سيعيشها فى هدوء حتى ينتهى والده من علبة السجائر تلك .. سيلعب الكرة كل يوم مع خالد ومحمود وباقى الأصدقاء  .. سيقضى يومًا مع أولاد خاله فى أرضه القريبة من هنا  ، يأكلون الجبن القديم وخبز الذرة الجاف ويشربون الشاى المصنوع على فروع الشجر القديمة و(قوالح) الذرة الجافة ، يجلسون بجوار خالهم وباقى فلاحى المنطقة يراقبونهم وهم يتندّرون على بعضهم البعض ويلقون النكات السخيفة التى تجعلها طريقتهم فى الكلام مضحكة .. ربما يقضى يومًا مع أولاد عمه عند النهر القريب ، وربما يسمح له عمه بالسباحة قليلًا ..

أفاق من أحلامه على صوت نباح أحد الكلاب فتذكّر أن الطريق ما يزال طويلًا أمامه.
ذكر الله مرةً أخـرى ثم أكمل طريقه متمنيًا أن يكُفّ والده عن التدخين ..




No comments:

Post a Comment